رحلة مكة

ياالله! مالرسالة التي تريد أن توجهها إلي؟ مالمعنى الذي علي فهمه وتنشقه واستيعابه في عقلي وقلبي؟

حسنا، سأعترف وأنت العالم السر وما يخفى أنه حلم لي، في هذا الوقت من العام بالذات!

 

مكة؟ نعم مكة، بكل هذا التجلي والعظمة والكبرياء، مكة، لتخلصني من العلائق والعوائق، وأنا الموهومة بالتخطيط والسيطرة، يرافقني كالندر ومواعيد وحسابات، وقوائم مهام، يومية وجامعية ونصف شهرية. ثم تأتي مكة، تنسف كل ذلك، فأضع قائمة بالمواعيد الملغاة، وأتنفس الصعداء، وبحرّية أقول: يارب مكة، توجهت إليك.

 

أصلي استخارة وقلبي يسألني: هل هناك ما هو خير من مكة؟ أحلم بجمع كبير من الناس أحدثهم، تمر أمي بينهم فتومئ لي لأقول. ورغم ارتباكي في المنام إلا أنني شعرت بحضنها وحبها. استيقظت وقلت: بسم الله إلى مكة

أحادث أمي، فتبكي تقول: عزيمة الله يا بنت! لا تفكري بأي شيء، اذهبي فقط ثم تبكي وتقول ادعي هناك كثيرا. تقول لي: تحتاجين مكة، ستعودين من هناك سماوية جدا، قريبة من هناك، من الله

 

والآن، أريد أن أتجهز للرحلة، أن أتجهز شعوريا! ويحي كيف يتجهز امرؤ للقاء حبيبه بعد عشرين عاما؟ بالدموع؟ أقضي يومي دامعة بحب وفرح. أنشد وأدندن: ودّيلي سلامي يا رايح للحرم.  أحادث صديقة حبيبة فترسل لي تسجيلات وكتب وأدعية وتقول: تذكري اسم الله القريب المجيب الكريم. أُصلي، فأُطيل وأدعو وأبكي.

أحنّ، فيثقلني الحنين، وأنا بنت تلك البلاد، طائف الهوى والحب، ساعتان إلى مكة! لطالما كنت هناك مع عائلتي في استقبال أقربائنا. أتذكر أبي ينشد وهو يبحث عن جدي هناك. لطالما كان الملتقى باب السلام. ترى كم تغيرت مكة؟ ربما كثيرا! لكن! هناك محور لا يزول ولا يتغير. الكعبة، منتهى الآمال!

 

يا ليلة اللقيا، يا ليلة السفر، يا بهية يا مكة، يا مهوى الفؤاد! كيف أنام وأنا على موعد معك! الغد! يا لغد السفر ويا لطريق الترحال الطويل!

 

وعلى الطريق لي رفيق، ترافقني بيان صاحبة الاقتراح، بيان اللي أجرى الله دعوته لي على لسانها.

أبحث كي أختار كتابا رفيقا في الرحلة، كتابا يُحْضِر قلبي ويُحَضّره، فأختار رواء مكة! في الطريق الطويل، سيرافقني هذا الكتاب، سأبدأ به مع لحظة الانتقال الأولى. في القطار، في المطار، وفي الطائرة، أقرأ بعمق، وألون الفقرات المهمة لي. يلهمني الكاتب في الانقطاع عن العالم الخارجي والتفرغ هناك.

 

أغلق هاتفي معظم الوقت فأنا  أريد من هذه التجربة كما يقول حسن أوريد في كتابه

“قطيعة، تحللا من الماديات، وتأهبا للروحانيات”

 

تخيل أن تصل فجرا، متعبا، مرهقا، وبدل أن تحط الرحال في سريرك، تحطها في ساحة الحرم الخارجية، والنسيم يعبث بدموعك مع الأذان الأول! أفرك عيني وأذنيّ وأنا أرقب المئدنة!

تحين الصلاة، فكأنني أصلي لأول مرة، وأسمع الفاتحة لأول مرة، لازلت أذكر آيات التوبة التي قرأها الإمام في صلاة الفجر.

 

كان الموعد مع الكعبة قبيل المغرب، كل ما قبل ذلك هو تشويق واشتياق لا ينتهي واستعداد للقاء رهيب مهيب. كان الزحام شديدا، تمسك بيان بيدي وأنا أنظر إلى الأرض، وأسلم أنها ستخبرني في الوقت المناسب لأرفع عيني فأراها. وفي لحظة ما قالت: الآن! وبالرغم من رغبة الطائفين بالمرور وقفت! من رحمة الله بنا أننا نمتلك الدموع حين تخوننا اللغة! ثم دعوت.

لقد كان لقائي بالكعبة كما يقول حسن أوريد “لقاء مع ذاتي”

 

بين المغرب والعشاء كانت العمرة الأولى!

 

العمرة هجرة والإحرام تجرد وتحرر، والتلبية توجه وتسليم،والطواف سيل، ولا طواف بالكعبة قبل هدم الأصنام في قلبي، والسعي بحث حتى بلوغ الماء، ولا سعي دون اليقين بالارتواء. ( من كتاب رواء مكة بتصرف )

 

كنت أرقب نفسي، وأرحمها وأفسح لها أن تبكي، وتتأوه وتدعو وتستغيث. كنت أرقب روحي تغتسل بدموعي برقة. ويذوب الحزن في قلبي أو يختلط بكثير من الرضا والتسليم

تسليم؟ نعم نويتها هكذا منذ البدء وكنت أدعو بها. يارب اجعلها عمرة تسليم فقد سلمت أمري لك

كنت أدعو بإيمان يملأ شغاف نفسي

بعد الطواف توجهت لماء زمزم، فانحنيت لأصب الماء، وكما يقول حسن أوريد “فلما انحنيت ارتويت”

 

وبقدر جلال الطواف بقدر حرية السعي. وكأن الله يقول لنا: ابحثوا عني كما تشاؤون!

كنت أسعى كما سعت هاجر. أتخيل هذا المكان البارد النظيف المعطر صحراء رملية حارة، تسعى هاجر فيها باحثة عن رزق، فتجده أخيرا تحت قدمي رضيعها في مكان ربما لم يخطر لها على بال. أليس في ذلك رسالة واضحة أن السعي لنا وأن الجبر من الله؟

 

تحللت من إحرامي على يد امرأة مسنة، كانت تعتمر مع ابنها الشاب، الذي انحنى بعد الطواف فقبل يدها وقال:  عمرة مقبولة يا حجة.

 

وكنت أكثر من الطواف حتى غدا لي رغم الأيام القليلة روتين أمام الكعبة، فكانت معظم صلواتي هناك، وكان يرافقني دفتر مراجعاتي لنفسي، هناك شعرت مرات بفتوح كبير، فكتبت كثيرا، أمام الكعبة، بكل بهائها ونورها يملأ قلبي.

 

تشعرك مكة بأنك واحد منهم، من كل هؤلاء القادمين إلى بيت الله. تقول لك: إنك واحد من هذا الجمع وأن الجميع سواسية، ثم في مناجاتك ودعائك تدلك على فردانيتك، تعلم أن الله يسمعك أنت ويراك أنت ويرافقك أنت، فتخشع، وتهمس له، أو ترفع بصرك إلى السماء وتناجيه! وتقول، يارب أنا في حماك، في مسراي ومساري وسيري.

 

تمضي أيام خمسة كأنها الحلم، يفيض الناس فيها إلى الحرم فيضا. تخيل امتياز أن تكون باحة الحرم مكان نزهتك  ورواء عطشك أقرب براد لماء زمزم، قضيت هناك مع بيان حوارات وحكايات، وكان لنا عمرة سويا. خرجنا يوم الجمعة إلى التنعيم ومن هناك ابتدأت رحلة عمرة جديدة، أو رحلة عمر جديد!؟

إحرام، وطواف وسعي وتحلل.

 

كيف لا يشبع الناس من ذلك المكان؟ كيف يستمرون بالتوق له وهم فيه.

سلمت نفسي في الطواف وسرت مع السائرين، وكنت في كل مرة يعلو فيها أصوات الداعين أجعل نفسي منهم وأدعو معهم حتى يخفت الصوت أو يبعد، وأرجو أن يجاب دعائي بدعائهم.

 

في اليوم الأخير تختلط المشاعر، شيء ما يشبه الفرح أنك هناك وشيء يشبه الحزن المدفون عميقا أنك مودع… من مطار جدة، تطير الطائرة متوجهة إلى اسطنبول ثم إلى هانوفر.

 

ترى كيف تحفر الذكريات نفسها في الذاكرة؟ في القلب والروح. لا زلت أتذكر صلاة العشاء الأولى في البيت. بكيت لحظتها بكاء صامتا. كنت أصلي في ألمانيا و أسمع ترديد الطائفين بالدعاء،  كان صوتهم في أذني وكأنني ما زلت هناك.

 

تقدم لك مكة عهدا جديدا، وكأنها تمنحك ورقة بيضاء من جديد، تملؤك بالأمل بعفو الله وسعة رحمته، فتشعر أنك قريب قريب وأن الله قريب قريب! لربما يصعب حقا أن نكتب بالكلمات ما تعيه القلوب! ولربما تختلف التجارب جدا، لكنني جازمة جدا أن هذه الرحلة هي خير ما ختمت به عامي.

 

لربما يسألني أحد ما عن أهم نصائح للسفر إلى مكة، فهاكم هي

 

  • تجهز نفسيا وشعوريا (وأنصح بقراءة كتاب رواء مكة)  كنوع من الاستعداد النفسي وأعلن التسليم لله واقبل، اقبل بكل فيض وتيسير أمر
  • اذهب برفقة صديق، وحافظ على لحظات الخلوة هناك
  • انقطع عن العالم الخارجي، عن العلائق والعوائق قدر الإمكان. (لربما تحتاج إلى إنهاء بعض الأمور قبل السفر) سيمنحك هذا تجربة فريدة
  • انتبه للتفاصيل والحكايات الصغيرة، لطف الناس معك، ابتسامتهم لك، طعام يُهدى إليك. ستشعر بتواضع شديد كونك غرببا وستشعر بقرب شديد كونك واحدا من هذه الجموع.

 

والسـلام